نهى سعيد تكتب: « بريد إلهي مفتوح ».. حين يغيب الصوت وتبقى الرسالة

بيان
كان نادر يعيش الحياة بخفةِ العابرين، لا يتوقف طويلًا أمام ما يجيء أو يرحل، شابٌ أنيق، حاضر الذهن، يملأ المكان بابتسامته وثقته. يحسب أن العمر طويل، وأن الغد مضمون، وأن العلاقات يمكن أن تنتظر.
وفي إحدى محطات طريقه، كانت أمل تنتظره. صديقةٌ تشبه النسمة، تحضر حين يرحل الجميع، وتفهمه دون شرح. كانت تستمع له بقلبٍ يعرفه أكثر مما يعرف نفسه، وتخفي في أعماقها حبًا نقيًا، صامتًا، لا يطالب بشيء.
مرت الأيام، وارتبط نادر بفتاةٍ أخرى، لكن صداقته بأمل لم تنقطع، كانت دائمًا هناك… تسأل وتطمئن وتدعو له في الغيب.
وحين علمت بانفصاله عن خطيبته، جلست أمام شاشة هاتفها طويلًا، تتردد بين الخوف والجرأة، ثم كتبت أخيرًا على الواتساب كلمة واحدة فقط: “بحبك”.
قرأها نادر مراتٍ ومرات، وشعر أن تلك الكلمة الصغيرة حملت كل الصمت الذي لم يُقال من قبل. لكنه كتب بعد لحظة صمتٍ طويلة: “أمل… أنا محتاج وقت. لسه خارج من تجربة صعبة، ومش قادر أبدأ حاجة دلوقتي”.
لم تردّ أمل. اكتفت بأن تُغلق هاتفها تلك الليلة، وعلى وسادتها سالت دمعة واحدة… كانت كافية لتقول كل شيء.
مرت الأيام بصمتٍ ثقيل. وفي مساء يوم جمعة، قبل العيد بأسبوعين، اتصلت به فجأة. لم تكن هناك مناسبة، فقط رغبة مباغتة في أن تسمع صوته. قالت بهدوءٍ مبحوح: “كنت أريد أن أسمع صوتك فقط… لا أكثر. اعتنِ بنفسك يا نادر.”
وبعد أسبوعين، في صباح العيد، كتب لها نادر رسالة قصيرة: “كل عام وأنتِ طيبة يا أمل، يا أعز صديقة.”
لم تمضِ دقائق حتى جاء الرد، لكنها لم تكن أمل. كانت أختها ماجدة، تكتب ببطءٍ وكأن الحروف تخرج من بين الدموع:
“نادر… أمل ماتت من أسبوعين. تُوفيت في حادث بعد مكالمتكما بيوم واحد.”
تجمّد في مكانه، قرأ الرسالة أكثر من مرة، كأن قلبه يرفض التصديق.
اتصل بها، فكان صوتها مبحوحًا: “صدمتها سيارة… وكانت بتردد اسمك، كانت عايزة تشوفك قبل ما تمشي”.
سقط الهاتف من يده، وركب سيارته مسرعًا إلى المقابر التي وصفتها له. وقف أمام قبرها، قرأ لها الفاتحة، وبكى كما لم يبكِ من قبل. رفع رأسه نحو السماء وهمس: “ربنا يجعلك من أهل الجنة يا أمل.”
وفي تلك الليلة، ذهب نادر إلى السيدة نفيسة، دخل المسجد بصمتٍ مكسورٍ بالوجع، سجد طويلاً، وبكى حتى أرهق البكاء صوته.
وفي لحظة صفاءٍ داخلي، قال بينه وبين نفسه: “يا رب… ياريت كنت اتجوزتها، يمكن كنت عوّضتها عن كل حاجة.”
وفجأة مرّت على قلبه الآية: “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ”* [البقرة: 216] أحسّ كأنها رسالة خاصة من الله إليه، تهوّن عليه ما كُتب، وتذكّره أن كل شيء بقدر، وأن بعض الحرمان… نجاة.
جلس في ركنٍ هادئٍ من المسجد، وقال في نفسه بصوتٍ خافت: “السند الحقيقي مش إنسان… السند الحقيقي هو الله. كل حاجة ممكن تنتهي في لحظة، إلا حضوره جوا القلب.”

خرج نادر من المسجد وقد تغيّر في داخله الكثير. أصبح أكثر هدوءًا، وأكثر قربًا من الله، وأكثر وعيًا بأن الفقد ليس نهاية، بل بداية وعي جديد.
وفهم أن الحياة قصيرةٌ جدًا على أن نؤجل ما في القلب، وأن الحب لا يُؤجل، والاعتذار لا يُؤجل، وأن الخصام يُهدر من العمر ما لا يُعوَّض.
فمن الحكمة أن: نقول الكلمة الطيبة قبل أن يفوت وقتها.
نُسامح قبل أن نندم.
نُقدّر من يحبنا بصمتٍ قبل أن يرحل بلا وداع.
نُدرك أن كل حدثٍ في حياتنا يحمل رسالة من الله، حتى لو جاءت على هيئة وجع.
فالحياة تمضي سريعًا، والقلوب لا تبقى للأبد، لكن الله يبقى، وسلام القلب لا يُستمد إلا منه.

وكل حدثٍ في هذه الدنيا، مهما بدا مؤلمًا، يحمل رسالة من السماء، تقول لنا إن ما نفقده لم يكن إلا طريقًا يقودنا إلى الله.

اقرأ فى هذه السلسلة:

نهى سعيد تكتب: « بريد إلهي مفتوح ».. حين تصنع المعجزات

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى