عاطف عبد الغني يكتب: من نصر أكتوبر إلي حرب غزة .. ماذا جري ؟! (2 من 2)
بيان
كان الهدف من عقد مؤتمر مدريد للسلام 1991 هو احتواء انتفاضة “أطفال الحجارة” الفلسطينية، واحتواء التأثير المتزايد لجيل جديد من المقاومين الفلسطينيين لم يكن مرتبطًا بالقيادات التاريخية لمنظمة فتح، ورأت إسرائيل واليهودية العالمية في هذه الانتفاضة تهديدًا وجوديًا للكيان الصهيوني، فتحركت لوأدها، من خلال أحياء أدوار جيل ياسر عرفات وقيادات فتح وتقييد حركتهم عبر الاعتراف بهم كممثلين شرعيين للفلسطينيين ومنحهم سلطة الأمن والمحليات علي أجزاء من الضفة الغربية ، وجاء ذلك كأحد مخرجات مؤتمر مدريد، حيث تم جرهم إلي مسار سياسي بإدخالهم في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل في إطار ما وُصف آنذاك بأنه مسار يُفضي إلي إقامة دولة فلسطينية.
ومع وصول بنيامين نتنياهو – الزعيم الليكودي المتطرف – للحكم في إسرائيل لأول مرة عام 1996، توقفت بأمر منه المفاوضات المباشرة مع السلطة الفلسطينية، لكن استمر ما يسمى بـ “المفاوضات الموازية” عبر قنوات سرية عُرفت بالخلوات.
ومن بين اللجان الخمس التي أُنشئت خلال هذه المفاوضات لم تنشط فعليًا سوي لجنة الاقتصاد التي ضمت رجال أعمال من دول عربية وأجنبية.
كما تم تسهيل شراكات اقتصادية ومنح امتيازات لرجال الأعمال العرب مقابل أدوار لاحقة في مجالات مثل التطبيع الشعبي، وتحرير الإعلام أو قل نزعه من يد الدولة لصالح مؤسسات إعلامية مستقلة (استثمارية) أصدرت لاحقا صحف مثل “المصري اليوم” وأنشئت فضائيات مثل “دريم”.
وفي ذات الوقت ضخت تمويلات هائلة لتنشيط المجتمع المدني، وتولي نشطائه العمل علي “مشاريع” تعكس فكر “الليبرالية الجديدة”، تهدف إلى الضغط على أعصاب النظام بشدة، وتثوير الجماهير ضده، والتدخل فى عملية تغيير القيم الاجتماعية، وزعزعة القيم الدينية، على سبيل المثال الدفع لإلغاء عقوبة الإعدام ، ودعم المثلية الجنسية، وبرامج الجندر، وفى الجانب الاقتصادى تهميش دور الدولة تماما لصالح الملكية الخاصة والفردية، إلى آخر هذه السياسات التى تؤدى لهشاشة سلطة الدولة، أو تحويلها إلى ما يعرف بـ “الدولة الرخوة”.
واقتحمت ذات المجال مؤسسات أجنبية مثل المعهدين الديمقراطي والجمهوري الأمريكيين وعملت دون ترخيص على الرغم من أنف السلطات.
وبالطبع ساهم هذا الحراك الخبيث الذى تم تنفيذه من خلال ما يسمى بـ “الدبلوماسية الشعبية” في تمهيد الطريق لما عرف بثورات “الربيع العربي”، صورة مستنسخة من “الثوارات الملونة” التى تم إطلاقها فى البلدان المنشقة عن الاتحاد اليوغسلافى، والاتحاد السوفيتى، التى دخلت كتلة “دول أوروبا الشرقية”، وهذه الدول مثل: مثل: أوكرانيا، وصربيا، وجورجيا………..إلى آخره، وكان الهدف من هذه الثورات هو جر شعوب هذه الدول من الولاء الأيدولجى للمعسكر الشيوعى إلى الليبرالية الجديدة.
اقرأ أيضا:
– عاطف عبد الغني يكتب: من نصر أكتوبر إلى حرب غزة .. ماذا جرى؟! (1 من 2)
كان من المعلوم لمهندسى مخطط الربيع العربى – هى تقريبا نفس المؤسسات التى تولت تفكيك الاتحاد السوفيتى، وإطلاق الثورات الملونة عبر استخدام كل أدوات القوة الناعمة وحروب الجيل الرابع، وأهمها الإعلام الرقمى – أن تنظيمات الإخوان هى الأكثر جاهزية في مصر وعدد من البلاد العربية للقفز على السلطة حال فراغها على أثر الثورة، مع تقدير أنه فى مرحلة تالية سوف يدخل الإخوان والتيارات الإسلاموية الموالية لهم، في صراع مع قوي اليمين واليسار الليبرالي، وأن هذا الصراع سوف يفضي إلي الانقسام والفوضي التى تؤدى إلى تفتيت الدولة، وتقسيمها.
وفي هذا السياق، وهذه الفوضى التى نتجت عما يسمى ثورات الربيع، انشغل العرب بأزماتهم الداخلية علي حساب القضية الفلسطينية، والتي تراجع – أيضا – الاهتمام بها في دوائر الإدارات الأمريكية سواء الديمقراطية، أو الجمهورية، لصالح الصراعات الجيوسياسية وملفات أمريكا في أوراسيا ومناطق أخري من العالم.
وجاء وصول دونالد ترامب، الرئيس الجمهوري ليحكم أمريكا في ولايته الأولي، ويدشن شكل جديد لإدارة الصراع في منطقة الشرق الأوسط ، ويسعي فى سياساته لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية والسياسية لبلاده وإسرائيل، ودون اللجوء لاستخدام القوة العسكرية وكلفتها المادية والبشرية.
وفي الوقت الذي كان يغازل فيه ترامب – المناور المقامر – العرب وخاصة الخلايجة بورقة حماية بلادهم، وعروشهم قام بكل جرأة بتنفيذ قرار الكونجرس القاضى بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلي القدس، وهو القرار الذى لم يجرؤ عدد من رؤساء أمريكا من قبله على اتخاذه.
وسعي ترامب لعقد ما يسمى “الاتفاقات إبراهام”، وهى فكرة جهنمية، تسعي فى حقيقتها إلي تسهيل اختراق إسرائيل الصهيونية – عبر التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي – لبلاد وشعوب العرب الخلايجة، وتوسع نفوذ اليهود فيها عبر التطبيع الرسمى والشعبى.
ومضي ترامب يتعامل مع العرب على خلفية أفكاره التى تري حقا لبلاده فى في ثروات العرب، حيث تم تحصيل هذه الثروات من الغرب بما يشبه السرقة بعد رفع أسعار البترول.
وبينما كان يمضي قطار التطبيع يحيد الدول العربية – واحدة تلو الأخرى – في الصراع العسكري ضد إسرائيل، كان المشهد يتطور في جانب المقاومة الفلسطينية، وخاصة فى غزة التى طال أمد حصارها، وفى الأراضى الفلسطينية المحتلة التى زاد بشدة الضغط على سكانها العرب، ولم يعد من ثمة أمل ولا أفق للدخول لمسار سياسى لحل القضية الفلسطنية التى كاد العالم ينساها، وعلى هذه الخلفية تفجرت فجأة أحداث 7 أكتوبر 2023، وكانت عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حماس وفصائل فلسطينية أخري، والتي جلبت الحرب المدمرة علي غزة خلال العامين الماضيين.. وهذه حكاية أخرى.





